مبادئ التاريخ الشفوي
ما هو التأريخ الشفوي؟
يمكن تعريف الـتأريخ الشفوي بطريقة مبسطة على أنه: تجميع وتحليل وتوثيق معلومات يذكرها أناس شهدوا واختبروا أحداثها ووقائعها بأنفسهم في الماضي. وتمر عمليات التأريخ الشفوي بمراحل، تبدأ بتسجيل ثم تدوين حديث الأشخاص الذي يروون الوقائع اعتماداً على ذكرياتهم وعلى مالديهم من وثائق إن توفرت، ثم تنتقل إلى التحليل والبحث وصولاً إلى استعادة بناء ملامح وتفاصيل التاريخ. وتخضع تلك المراحل لمعايير عديدة وتوجد في مناهجها عدة مدارس أكاديمية.
من وجهة النظر العلمية، التأريخ الشفوي هو الحصول على شهادات مسجلة صوتياً (أو صوتياً وبصرياً) تتعلق بخبرات أو أحداث أو وقائع أو مشاركات أو مشاهدات أو معارف، وحفظها ومعالجتها وأرشفتها بهدف تحليلها ونشرها في أطر مختلفة، وذلك في إطار تأريخ سير الحياة أو تأريخ مرحلة معاصرة أو إجراء أبحاث حول مواضيع أو أحداث أو مناطق أو فترات إلخ.
يتميّز التأريخ الشفوي بإنتاج ومعالجة الشهادات الشفوية مما يحوّل هذه الشهادة إلى وثيقة تاريخية. فهي توسّع معرفتنا بالماضي من خلال الخبرات البشرية العادية عبر إعطاء فرصة الكلام لكل المشاركين في التاريخ، مهما كان دورهم بسيطاً ومهما كان الأثر الذي تركوه على مجريات أحداث العالم غير ملحوظ.
يسمح التأريخ الشفوي بالتالي ببناء تمثيل أقرب للأحداث التي حصلت، عبر مقاطعة الوقائع انطلاقاً من الآثار المكتوبة ومن الخبرات والتجارب الفردية لمن شاهدوا أو شاركوا في مجريات حدثٍ ماض ومن كافة أنواع الوثائق الأخرى المتوفّرة. ولا تكمن أهمية التأريخ الشفوي في تهيئة المصادر الإضافية لآثار الماضي فقط، بل وخاصة في كل ما يكشفه لنا من “الماضي المعاش” الذي نشعر بتأثيراته واستمراره عبر ما يصبح تاريخاً ديناميكياً. ولا تنحصر أهميته بالتالي في علاقته بالوثائق المكمّلة لأحداث الماضي بليمتدّ إلى كل ما يختزنه الماضي من طرائق حياة وأنماط شعور فردية أو جمعية أو مؤسساتية.
إن اللجوء إلى الشهادة الشفوية، بهدف كتابة التاريخ الاجتماعي والمحلي بل وحتى الفردي، يسمح بإدخال شخصيات غالباً ما تكون غائبة عن التاريخ المسجَّل والمدوّن، أي الفئة من الأشخاص المنسيّين عادة في التاريخ الرسمي، والذين تشكِّل ظروف حياتهم وإنجازاتهم الاهتمام الأكبر في التاريخ الشفوي، فيبرزون كمشاركين في كتابة التاريخ، وتصبح قصصهم مادة أساسية لاستخلاص التفاصيل والجوانب المتعددة والمتنوعة للمجتمعات. يمكن أن نشير بشكل خاص إلى النساء منهم والأطفال والعمال وكبار السن،وكذلك مؤسسي التيارات والحركات الاجتماعية والمهاجرين وأطياف المجتمع المختلفة، والتي لم تحظَ عادة بالاهتمام في التاريخ الرسمي المكتوب.
ومن هنا فإن فضاءات التأريخ الشفوي واسعة وممتدة وسع الحياة والمجتمعات وامتداداتها، وبالتالي يبدو من الصعب تأطير تلك الفضاءات أو الميادين ويكفي أن نقدم بعض الأمثلة لهذه الفضاءات مثل توثيق الحرف اليدوية أو فترات الأزمات أو التراث الفني أو الثقافي الشفوي لمجتمع ما، إلخ.تسمح هذه المواضيع للباحث باكتشاف وقائع غالباً ما تكون بعيدة عن مجال البحث والدراسة، وتختلف عن مجالات التأريخ السياسي أو العسكري حصراً، أو عن توثيق سير الحياة، وتتكامل معها في الوقت نفسه.
تمر خطة التوثيق الشفوي بثلاث مراحل أساسية تميّز المنهج التأريخي:
1. مرحلة التوثيق: تتضمن بناء إشكالية بحثية موجِّهة، تقود إلى إجراء مقابلات توثيق شفوي وبالتالي إلى تشكيل مجموعة من المصادر الشفوية التي يصار إلى تحليلها في المستقبل.
2. مرحلة التحليل: وتشمل تقييم ونقد وتفسير مجموع الوثائق الشفوية ومقاطعتها مع مصادر البحث وتحليلها
3. مرحلة إعادة بناء المشهد التاريخي وفق الوثائق الناتجة: تتضمن وضع نتائج البحث في إطار منهجي وبناء الدراسة، حيث تشكل المصادر الشفوية مراجع للدراسات والأبحاث حول الوقائع والأحداث.
يقوم التأريخ الشفوي بالتالي بمهمة مزدوجة، فهو ينشئ أولاً مصادر للمعلومات، ويقدّم ثانياً منهجاً لتحليل هذه المصادر عبر تأويل ومقاطعة هذه المصادر فيما بينها وكذلك مع غيرها من الوثائق.